الشيخ حسين النوري الطبرسي [ المحدّث النوري ]
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: سعيد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٥
تقريظ
لآية الله الشيخ عباس آل كاشف الغطاء
بسم الله الرحمن الرحيم
وسائل الحُرِّ أعيَتْ مَن يُباريها |
|
لله أقلامُه قد جلَّ باريها |
حتى بدا الكوكبُ النوريُّ متّضحاً |
|
فأبصرَ الطرفُ منه ما يساويها |
مستدركاً لنصوص غابَ أكثرُها |
|
عنِ الوسائل تزهو باسم راويها |
ومُدَّعِينَ سواه قطُّ ما عرفوا |
|
نصّاً ولا حَفَظوا إلّا أساميها |
فلو رأىٰ الحرُّ ما استدركته لزها |
|
وقال أحسنتَ قد تمَّت مبانيها |
فيا لَك الخيرُ كم تسعىٰ لنيلِ عُلاً |
|
ببذلِ نفسٍ فما خابت مساعيها |
ما زلت تبرز أخباراً وقد خَفيت |
|
حتى كشفت لنا مستور خافيها |
تلك المكارمُ قد خَصَّ الكريمُ بها |
|
كفَّ الحسينِ فقلْ لي مَن يجاريها |
آيُ السؤال وآيُ الراسخون إذا |
|
تلوتَها فحسينٌ مِن معانيها |
أناملٌ لك ما خطّتْ سوىٰ حِكَمٍ |
|
عن أهل بيتٍ لها الرحمٰن يُوحيها |
أخرجتَ للناس أخباراً معنعنةً |
|
أسندتها لرواةٍ صرّحت فيها |
عن النبي عن الآلِ الكرام معاً |
|
عن جبرئيل عن الرحمن ترويها |
هذّبت تهذيبها الكافي الفقيه فإنْ |
|
بحارُها التطمت يلقاك وافيها |
فيا لك الأجرُ ما دامت مصاحفها |
|
تُتْلا وفاز بنَيْل النُجح تاليها |
مقدّمة التحقيق
بسم الله الرحمن الرحيم
يتفاوت شرف العلوم بتفاوت مدلولها ، وكثرة شجونها ، وغزارة تشعب فنونها ، فاجلّها شأنا أكثرها نفعاً وفائدة ، وأرقاها شرفاً وفخراً ، أعظمها قدراً .
ومن اجلّ العلوم علم الحديث ، الذي هو مدار العلماء الاعلام ، في استنباط قواعد الاحكام ، لبيان الحلال والحرام ، وكيف لا يكون كذلك ؟ ومصدره عمن لا ينطق عن الهوى ان هو الّا وحي يوحى .
فهو المفسّر للكتاب وانّما |
|
نطق النبيّ لنا به عن ربّه |
وهو علم الله المستودع في صدور الأئمة ( صلوات الله عليهم اجمعين ) ، فمن استمسك به استضاء بنور الهدى ، واكترع رحيق الكأس الأصفى .
وهو أحد الحجج القاطعة والمحجة الساطعة ، الذي تظهر به تفاصيل مجمل الآيات القرآنية البالغة .
وهو
العلم الذي تضع الملائكة أجنحتها لطالبه ، ويعطى بكلّ قدم يخطوه ثواب ألف شهيد ، وتستغفر له الحيتان في البحر . والجلوس عند
أهله ساعة خير من قيام ألف ليلة قائما وراكعا وساجدا .
فالاشتغال بالحديث من احسن العبادات ، وأجلّ الطاعات ، وأفضل القربات .
ولذا حثّ الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) أصحابه وحضّ اتباعه على الاهتمام به ، واعطائه شرف الاولوية بعد القرآن ، في حفظه وتقييده بالكتابة .
وقد كان لجابر بن عبد الله الانصاري ، المتوفى عام ٧٨ هجرية ، صحيفة يحدث عنها مجاهد كثيراً (١) .
وكان قتادة بن دعامة السدوسي ، المتوفى ١١٨ هجرية ، يكبر من قيمة هذه الصحيفة ويقول : لأنا لصحيفة جابر ، أحفظ مني لسورة البقرة (٢) .
وروى الترمذي في سننه : ان سعد بن عبادة الأنصاري ، كانت عنده صحيفة جمع فيها طائفة من أحاديث الرسول وسننه (٣) .
وعني عبد الله بن عباس ، المتوفى عام ٦٩ هجرية ، بكتابة الكثير من سنة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ولقد تواتر عنه انه ترك حين وفاته ، حمل بعير من كتبه (٤) .
وكان تلميذه سعيد بن جبير يكتب عندما يملي عليه ، فاذا نفذ
__________________________
(١) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٥ ص ٤٦٧ .
(٢) التاريخ الكبير ج ٧ ص ١٨٦ .
(٣) علوم الحديث ص ١٣ .
(٤) شذرات الذهب ج ١ ص ١١٤ .
القرطاس كتب على لباسه ونعله ، وربّما على كفه ثم نسخه في الصحف عند عودته إلى بيته (١) .
واستنتج شيرنجر أن الحديث قد دوّن منه الكثير في عهد الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وكان هذا ما يعنيه أولا وبالذات (٢) .
لان تدوين الحديث قد تغيّر مساره بعد ذلك ونحا منحى آخر ، روى الذهبي : ان ابا بكر جمع الناس بعد وفاة نبيّهم ، فقال : انكم تحدثون عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشد اختلافا ، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئاً ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه (٣) .
وقالت عائشة : ان أبي جمع الحديث عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وكان خمسمائة حديث ، فبات ليلة يتقلب كثيرا ، قالت : فغمّني ، فقلت : أتتقلّب لشكوى أو لشيء بلغك ! فلما أصبح قال : أي بنيّة هلمّي الأحاديث التي عندك ، فجئته بها ، فدعا بنار فحرقها (٤) .
وأمّا عمر بن الخطاب فلم يلبث أن عدل عن كتابة السنن ، بعد ان عزم على تدوينها ، قال ابن سعد في طبقاته : ان الأحاديث كثرت على
__________________________
(١) سنن الدارمي ج ١ ص ١٢٨ .
(٢) علوم الحديث ص ٢٨ .
(٣) تذكرة الحفاظ ج ١ ص ٣ في ترجمة أبي بكر .
(٤) تذكرة الحفاظ ج ١ ص ٥ .
عهد عمر بن الخطاب ، فأنشد الناس أن يأتوه بها ، فلما أتوه أمر بتحريقها (١) .
وامتنع ـ عند ذاك ـ كثيرون عن الكتابة ، منهم عبيدة بن عمرو السلماني المرادي ، المتوفى عام ٧٢ هجرية ، وابراهيم بن يزيد التيمي ، المتوفى عام ٩٢ هجرية ، وجابر بن زيد ، المتوفى عام ٩٣ هجرية ، وابراهيم بن يزيد النخعي ، المتوفى عام ٩٦ هجرية (٢) .
وكان من جرّاء هذا المنع ، أن تجرأ المتخرصون بالكذب على الله ورسوله ، وتزلّف المتزلفون من وضاع الحديث ، وباعة الضمير والوجدان ، وذوي الاهواء الضالة ، وأصحاب النزعات الهوجاء الباطلة ، ليكسبوا الدراهم والدنانير ، مقابل احاديث لفقوها على الرسول المصطفى .
ودبّت يد التحريف تثير في اوساط الامة روح الشقاق والنفاق ، وتبعث فيهم روح اليأس واللا مبالاة ، وتوسّع فيهم عوامل التفرقة والانحطاط .
فتأطرت القيم بأطر بالية ، وضاعت المثل العليا ، وعمّت الفوضى بالخروج من حدود الامانة في النقل .
يقول ابن تيميّة في منهاجه : وطائفة وضعوا لمعاوية فضائل ، ورووا احاديث عن النبيّ في ذلك ، كلّها كذب (٣) .
__________________________
(١) طبقات ابن سعد ج ٥ ص ١٨٨ في ترجمة القاسم بن محمد بن ابي بكر .
(٢) علم الحديث ص ٣٣ .
(٣) منهاج السنة ج ٢ ص ٢٠٧ .
وانتحل الوضاعون سلسلة معنعنة تتصل بهم ، يروون الاحاديث المسندة وينسبونها للرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) .
أخرج الخطيب في تاريخه ، قال : لما قدم الرشيد المدينة ، أعظم أن يرقى منبر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في قباء اسود ومنطقة ، فقال أبو البختري : حدثني جعفر بن محمّد الصادق عن أبيه ، قال : نزل جبرئيل على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وعليه قباء ومنطقة ، مخنجرا فيها بخنجر (١) .
فترى القاضي يرتجل وضع الحديث ، رغبة لنوال السلطان ! وقال المعافى التميمي :
ويل وعول لأبي البختري |
|
اذا ثوى للناس في المحشر |
من قوله الزور واعلانه |
|
بالكذب في الناس على جعفر |
والله ما جالسه ساعة |
|
للفقه في بدو ولا محضر |
ولا رآه الناس في دهره |
|
يمرّ بين القبر والمنبر |
يا قاتل الله ابن وهب لقد |
|
اعلن بالزور وبالمنكر |
يزعم ان المصطفى احمدا |
|
أتاه جبريل التقي السري |
عليه خف وقبا أسود |
|
مخنجرا في الحقو بالخنجر |
واستجلب الرشيد اسحاق المعروف بأبي حذيفة ، المتوفى سنة ٢٠٠ هجرية ، وهو معروف بالكذب ومشهور بالوضع ، فأمره الرشيد أن يجلس في مسجد ابن رغبان يحدث الناس ، فأخذ اسحاق يحدث بالاكاذيب ، ويروي عن خلق من الثقات ، أكثرهم ماتوا قبل أن يولد .
__________________________
(١) تاريخ بغداد ج ١٣ ص ٤٨٣ .
واستقدم المهدي أبا معشر السندي وأشخصه الى بغداد ، وقال : تكون بحضرتنا تفقه من حولنا ، وكان أبو معشر ماهرا بوضع الأحاديث والقصص ، فقال ابن جزرة : أبو معشر أكذب من تحت السماء (١) .
وقد جمع العلامة الكبير الشيخ الاميني ( قدس الله روحه ) قائمة باسماء الرواة الذين رووا الموضوعات والمقلوبات ، وقدرها بـ ( أربعمائة وثمانية الاف وستمائة وأربعة وثمانين ) حديثاً موضوعاً ومقلوباً (٢) .
واستقصى سماحته ( سبعمائة ) من وضاع الحديث ، في الجزء الخامس من كتابه العظيم ( الغدير ) .
وكشف اللثام الفيروزآبادي في ( سفر السعادة ) ، والعجلوني في ( كشف الخفاء ) ، والسيوطي في ( اللآلي المصنوعة في الاحاديث الموضوعة ) ، وابن درويش في ( أسنى المطالب ) عن مئات الموضوعات .
وقال القرطبي : قد ذكر الحاكم وغيره من شيوخ المحدثين : ان رجلا من الزهاد انتدب في وضع الاحاديث في فضل القرآن وسوره ، فقيل له : لم فعلت هذا ؟ فقال : رأيت الناس زهدوا في القرآن ، فأحببت أن ارغبهم فيه ، فقيل : فان النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ، فقال : أنا ما كذبت عليه ، وانما كذبت له (٣) .
ان سيطرة الطبقة الحاكمة على زمام الامور ، وفسح المجال لثلّة من
__________________________
(١) تاريخ بغداد ج ٤ ص ٤٣١ .
(٢) راجع الغدير ج ٥ ص ٢٩٠ .
(٣) التذكار ص ١٥٥ .
وضاع الحديث ، يسرحون ويمرحون كيفما يشاؤون ، ألجأت البعض من المخلصين العاملين أن يلزموا دورهم ولا يتعدوها خوف الحبس والاهانة .
وراح الامويون ـ بعد ذلك ـ يؤيدون كلّ ما وافق أهواءهم ، ويكيلون التهم والافتراءات لكلّ من تسوّل له نفسه ان يقف أمامهم ، أو يعارضهم ببنت شفة وكان من نتيجة ذلك ، ان جابهوا شيعة أمير المؤمنين والائمة المعصومين ـ الذين لم يرضخوا لحظة واحدة لظلم الظالمين ـ مجابهة قاسية .
وبدأوا أولا بمنع جميع المحدثين أن يذكروا عليا وأهل بيته بخير ، ولا يروون حديثهم ، فكان العلماء اذا ارادوا أن يحدثوا عن علي كنّوه بأبي زينب .
ولم يكتفوا بذلك ! بل تعدّوها الى مخالفة كلّ رأي اعتمده الشيعة الامامية ، وجابهوه بالرفض ، لا لشيء ، الّا لانهم قالوا : ربّنا الله ثم استقاموا . . . !
قال مصنف الهداية ، ان المشروع التختم باليمين ، ولكن لما اتخذته الرافضة ، جعلناه في اليسار .
وقال النووي في المجموع : الصحيح المشهور انه في اليمين أفضل ، لأنه زينة ، واليمين أشرف ، وقال صاحب الابانة : في اليسار أفضل لان اليمين صار شعار الروافض ، فربما نسب اليهم ـ هذا كلامه ـ ، وتابعه عليه صاحبا التتمة والبيان (١) .
__________________________
(١) المجموع للنووي ج ٤ ص ٤٦٢ .
وقال الغزالي : ان تسطيح القبور هو المشروع ، ولكن لما جعلته الرافضة شعاراً لها ، عدلنا عنه الى التسنيم (١) .
وقال الشيخ محمد بن عبد الرحمن في كتاب ( رحمة الامة في اختلاف الائمة ) المطبوع في هامش ميزان الشعراني : السنة في القبر التسطيح وهو أولى على الراجح في مذهب الشافعي ، وقال أبو حنيفة وأحمد : التسنيم اولى ، لأن التسطيح صار شعارا للشيعة (٢) .
ونسبوا الى الشيعة امورا كثيرة هم بريئون منها ، براءة الذئب من دم يوسف ، فنسبوا لهم القول باُلوهية الائمة ، وما شاكلها من الاقوال التافهة ، أعاذنا الله منها .
ولكن اليد الغيبة والمنحة الالهية كانت تمدّ المذهب الشيعي ، وتؤازره وتشدّ في عضده ، ليشقّ طريقه المملوء بالاشواك والعراقيل ، وليحطم كل العقبات الكؤودة التي تعترض سبيله ، والمؤامرات الكبرى التي تحاك ضده ، وليقف شامخ الرأس عالي الهمة قوي البصيرة بوجه الجبابرة والطغاة ، كل ذلك بفضل قدسية مبادئه وعظمة تعاليمه ورسوخ أهدافه في أفئدة معتنقيه .
علماً بان عصر الامام جعفر بن محمّد الصادق ( عليه السلام ) ، كان من احسن العصور التي مرت على الشيعة ، فأعطتهم زخماً معنوياً عالياً ، وآزرتهم للوقوف ـ وبصلابة ـ أمام الصعاب الجمّة التي تعترضهم ، لشيخوخة الدولة الاموية وطفولة الدولة العباسية ، فأخذ الامام يبث علومه وينشر معارفه ، وتعاليمه ، التي استقاها من ينبوع
__________________________
(١) الغدير ج ١٠ ص ٢١٠ .
(٢) ميزان الشعراني ج ١ ص ٨٨ .
الحكمة والمعرفة ـ آبائه الطاهرين ـ الذين يستمدون علومهم من الذي لا ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى .
بيد ان هذه المدة لم تدم طويلا ، حيث اشتد ساعد العباسيين ، فبدأوا بمطاردة الشيعة وقادتها وحملة رسالتها وعلمائها ، وضيّقوا الخناق اكثر فأكثر وصاروا يحاسبون محبي عليّ وآله محاسبة دقيقة ، ويزجونهم في المعتقلات الرهيبة ، لمحبتهم له لا لشيء آخر .
ألم يحاسب الشافعي على حبّه عليا . . . ! واعتماده على أحكامه ، في أحكام البغاة على الامام . . . !
ألم يحاسب الحاكم النيسابوري صاحب المستدرك ، لأنه روى حديث الموالاة وكان يطعن على معاوية ! ! وغيرهم وغيرهم .
ولقد صدق الشاعر حيث قال :
تالله ما فعلت اميّة فيهم |
|
معشار ما فعلت بنو العباس |
* * *
عصر التدوين : سؤال يطرح نفسه على طاولة البحث ، في أي عصر ظهر التدوين ؟ ومن هو المدوّن الاول في الاسلام ؟ وبأمر من كان ذلك ؟
ذهبت
العامة الى القول بان خوف عمر بن عبد العزيز من دروس العلم وذهاب أهله وضياع الحديث ، هو الذي حمله على الأمر بالتدوين ، فقد كتب الى عامله على المدينة ـ ابي بكر بن محمّد بن عمرو بن حزم ـ يأمره ( انظر ما كان من حديث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أو سنة ماضية ، أو حديث عمرة فاكتبه ، فاني قد
خفت دروس العلم وذهاب أهله ) (١) .
وان اول من استجاب لعمر وحقق له غايته الكبرى ، عالم الحجاز والشام محمّد بن مسلم بن شهاب الزهري المدني ، المتوفى عام ١٢٤ هجرية ، الذي دوّن له في ذلك كتابا ، فغدا يبعث الى كل ارض دفترا من دفاتره ، وحقّ للزهري ان يفخر بعمله قائلا : ( لم يدوّن هذا العلم أحد قبل تدويني ) (٢) .
ونشطت الحركة العلمية في القرن الثاني ، فلذا يقول الحاج خليفة في كشف الظنون : واعلم انه اختلف في اول من صنّف في الإِسلام ، فقيل الإِمام عبد العزيز بن جريج البصري ، المتوفى سنة ١٥٥ هجرية ، وقيل أبو النضر سعيد بن عروبة ، المتوفى سنة ١٥٦ هجرية ، ذكرهما الخطيب البغدادي ، وقيل ربيع بن صبيح ، المتوفى سنة ١٦٠ هجرية ، ثم صنف سفيان بن عيينة المتوفى سنة ١٩٨ هجرية ، ومالك بن انس بالمدينة ، وعبد الله بن وهب ، المتوفى سنة ١٩٨ هجرية بمصر ، وعبد الرزاق باليمن ، ومحمد بن فضيل بن غزوان بالكوفة ، وحماد بن سلمة ، وروح بن عبادة بالبصرة ، وهيثم ( هشيم ) المتوفى سنة ١٨٣ هجرية بواسط ، وعبد الله بن المبارك ، المتوفى سنة ١٨٢ هجرية بخراسان .
وانه لمن المستحسن بنا عندما وصل المطاف الى هنا ، أن نلمّ المامة عجلى بأهم المصادر الحديثية عند أهل السنة والجماعة ، أعني الصحاح الستة .
__________________________
(١) علم الحديث ص ٣٧ .
(٢) علم الحديث ص ٣٨ .
صحيح البخاري : لأبي عبد الله ، محمد بن اسماعيل بن ابراهيم بن المغيرة ابن روزبه الجعفي البخاري ، وانما قيل له الجعفي : لأن المغيرة أبا جده كان مجوسيا ، أسلم على يد يمان البخاري وهو الجعفي والي بخارى ، فنسب اليه حين أسلم على يده .
ولد سنة ١٩٤ هجرية ، ومات سنة ٢٥٦ هجرية .
واحيط البخاري بهالة من التقديس والاكبار ، وانه اصح كتاب على وجه الأرض ، ويتلو القرآن في الأهمية ( ومن العسير مؤاخذته بشيء ، لان ذلك يدعوا الى الرمي بالبدعة والخروج عن سبيل المؤمنين ) (١) .
وهو عدل القرآن وانه اذا قرىء في بيت ايام الطاعون حفظ أهله منه ، وان من ختمه على أيّ نيّة حصل على ما نواه ، وانه ما قرىء في شدة الّا فرجت ولا ركب به في مركب فغرقت (٢) ، ومن نظر في كتاب البخاري تزندق (٣) .
فلذا تهيّبه أكثر الحفاظ ، ولكن البعض وقف امامه .
قال الذهبي : ( لولا هيبة الصحيح لقلت انها موضوعة ) .
وذهب ابن حزم الى تكذيب بعض أحاديثه ، فعنف .
ولكن المؤاخذ عليه أنه عقد أبوابا لا صلة لها بالكتاب ، وأحاديث لا صلة لها بالباب ، وربما عنون لباب لا يستدعي ذلك أصلا .
فقد عقد بابا في كتاب الجهاد ( حول صفة الحور العين ) ، وعقد في
__________________________
(١) قواعد التحديث للقاسمي ص ٢٤١ .
(٢) نفس المصدر ص ٢٥٠ .
(٣) شذرات الذهب ج ٧ ص ٤٠ .
كتاب المحاربين من اهل الكفر والردة بابا في ( رجم المحصن ) أو ( الرجم في البلاط ) ، وفي كتاب المرضى والطب بابا سماه ( باب قوموا عني ) .
هذا ، وقد روى عن اناس متهمين بالكذب ، كإسماعيل بن عبد الله بن اويس بن مالك المتوفى سنة ٢٢٦ وزياد بن عبد الله العامري المتوفى ٢٨٢ هجرية ، لكنه لم يرو عن الإِمام الصادق الذي أجمع الكلّ على صدق حديثه ودرايته بكلّ شيء ، والأخذ باقواله وآرائه ، حيث كان في الكوفة وحدها ألف شيخ محدث ، كلّ يقول : حدثني جعفر بن محمّد .
وروى عن الضعفاء ، ويعدونهم بـ ( ثمانين ) منهم الحسن بن ذكوان البصري ، وأحمد بن أبي الطيب البغدادي ، وسلمة بن رجاء التميمي ، وبسر بن آدم الضرير ، وعبد الله بن أبي لبيد ، وعبد الله بن أبي نجيح المكي ، وكهمس بن منهال السدوسي ، وهارون بن موسى الازدي ، وسفيان بن سليمان ، وعبد الوارث بن سعيد ، وغيرهم .
كما وروى عن اناس مشهورين بعدائهم ونصبهم لأهل بيت العصمة والطهارة ، كالسائب بن فروخ ، واسحاق بن سويد العدوي ، وبهز بن أسد ، وحريز بن عثمان ، وحصين بن نمير الواسطي ، وخالد بن سلمة بن عاص بن هشام المعروف بالفأفاء ، وعبد الله بن سالم الاشعري أبي يوسف الحمصي ، وقيس بن أبي حازم (١) .
ومن الخوارج : عمران بن حطان السدوسي البصري المتوفى سنة
__________________________
(١) تدريب الراوي للسيوطي ص ٢٢٩ .
٨٤ هجرية ، الخارجي الملعون الذي مدح المجرم عبد الرحمن بن ملجم المرادي بقوله :
يا ضربة من تقي ما أراد بها |
|
الّا ليبلغ من ذي العرش رضوانا |
أفهل جهل قوله ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي أتدري من أشقى الآخرين ؟ فقال علي : الله ورسوله أعلم ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : قاتلك يا علي (١) .
ألا يعلم انه ( صلى الله عليه وآله ) قال : يا علي لا يحبك الّا مؤمن ، ولا يبغضك الّا منافق .
فهل خفي على البخاري ، قوله ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي حربك حربي ، وسلمك سلمي .
أليس علي هو من النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) بمنزلة هارون من موسى ، كما يحدثنا البخاري نفسه في صحيحه .
هل ان مخالفة عمران بن حطان السدوسي لقول الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) يجعله موثقا عند البخاري ، وموردا للاعتماد عليه والاعتداد بروايته ، لا أعلم لماذا كلّ هذا الاجحاف بحقّ أهل بيت أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، والتمسك بحبل مناوئيهم وأعدائهم .
صحيح مسلم : لأبي الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري نسبا ، النيسابوري موطنا ، المتولد ٢٠٦ هجرية ، والمتوفى ٢٦١ هجرية .
__________________________
(١) ذخائر العقبى ص ١١٥ .
قال أبو علي النيسابوري ( ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم ) (١) .
ورجّح بعضهم ، منهم المغاربة ، صحيح مسلم على صحيح البخاري (٢) ، وادعوا انه لا يخرج الّا عن الثقة عن مثله في جميع الطبقات ، ولكن الحفاظ طعنوه بكثرة روايته عن الضعفاء ، الذين يربو عددهم على ( المائة والستين ) رجلا مطعونا فيه .
فطعن الدارقطني في كتابه المسمّى بالاستدراكات والتتبع ، على البخاري ومسلم في ( مائتي ) حديث فيهما (٣) .
ويقول القسطلاني : ان ما انتقد على البخاري من الاحاديث ، أقلّ عددا مما انتقد على مسلم (٤) .
موطأ مالك : لأبي عبد الله مالك بن انس بن أبي عامر ، ولد سنة خمس وتسعين من الهجرة ، ومات بالمدينة سنة تسع وسبعين ومائة ، وله أربع وثمانون سنة .
وكيفية تأليف موطأ مالك : ان المنصور لقي مالكا في موسم الحج ، واعتذر منه ممّا صدر من عامله بحقه ، وطلب منه أن يؤلف كتابا في الحديث يكون عليه المعوّل في الفتوى والقضاء ، وشرط عليه أن لا يروي في كتابه عن علي ( عليه السلام ) أصلا !
واستجاب مالك للشرط فنفّذه بدقة متناهية . . !
__________________________
(١) ارشاد الساري ج ١ ص ٢٠ .
(٢) عمدة القاري ج ١ ص ٥ ، وارشاد الساري ج ١ ص ٢ .
(٣) عمدة القاري ج ١ ص ٨ .
(٤) ارشاد الساري ج ١ ص ٢١ .