عهد
الإمام الباقر عليهالسلام
هلاك الوليد بن عبد الملك :
وتوفي الوليد لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الأُولى سنة (٩٦ ه) وهو ابن خمسين سنة تقريباً وولي عشر سنين تقريباً ، بدير مرّان وحُمل ودُفن بدمشق ، وله تسعة عشر ولداً ذكراً! وكان الوليد طوالاً أسمر أفطس به أثر جدريّ خفيّ ، بمقدّم لحيته شمط ، ليس في رأسه ولا لحيته غبرة. وكان لحّاناً في العربية ، فيه حرج وحيرة.
وأحصى أهلَ الديوان فألقى منهم بشراً كثيراً بلغت عدّتهم عشرين ألفاً! فأجرى الأرزاق على العميان والمساكين والمجذَمين ، وهو أوّل من عمل البيمارستان (المشفى) للمرضى ، ودار الضيافة للغرباء ، وأوّل من أجرى الإفطار في المساجد في شهر رمضان. وكان ممّن أحدث قتل العصاة! وأوّل من أخذ بالقذف والظنّة وقتل بهما الرجال! وفي سنة (٩٤) في ولايته قامت الزلازل أربعين صباحاً فهدمت كلّ شيء! فانكسر الخراج في عهده فلم يُحمل إليه شيء كثير (١).
__________________
(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٩٠ و ٢٩١ و ٢٩٢.
وقال فيه ابن العبري الملطي : إنّه منع الكتّاب النصارى من كتابة الدفاتر بالروميّة ، ولكن بالعربية وكان صاحب بناء واتّخاذ للضياع والمصانع ، وجعل لكلّ ضرير قائداً ولكلّ مقعد خادماً وأعطى المجذومين ومنعهم من السؤال والتكدّي من الناس. ومع ذلك كان يمرّ بالبقّال فيقف عليه يأخذ منه حزمة بقل ويقول له : بكم هذا؟ فيقول : بفَلس. فيقول : زد عليها! وكان لحّاناً (١).
وقال المعتزلي : روى أهل السيرة : أنّ الوليد ذكر عليّاً عليهالسلام فقال : لعنهِ الله (بكسر الهاء) كان لِصّ ابن لِصّ! فعجب الناس وقالوا : ما ندري أيّهما أعجب : لحنه فيما لا يلحن فيه أحدٌ أو نسبته عليّاً إلى اللصوصيّة (٢)!
أيّام سليمان بن عبد الملك :
كان سليمان بن عبد الملك أخو الوليد بالرملة من فلسطين ، وأنشأ بها قصره والمسجد الجامع ، وكان نزول الناس في بلد اللُدّ فأمرهم بالبناء معه بالرملة وانتقالهم إليها ، ومن امتنع من ذلك قطع الميرة عنهم ، بل أخذ بهدم منازلهم حتّى انتقلوا ، وخرّب بلد اللُدّ!
وكان بها يوم مات أخوه الوليد بدير مُرّان ، وحُمل إلى دمشق وصلّى عليه ابن عمه عمر بن عبد العزيز بن عبد الملك ودفنه ثمّ أخذ البيعة لسليمان ، فصار سليمان إلى دمشق.
وكان بمكّة في أصل جبل ثبير ثقبة ينبع منها ماء عذب ، وعلم سليمان بذلك فكتب إلى عامل مكّة خالد بن عبد الله القسري يأمره أن يجري له عيناً من الثقبة حتّى تظهر بين زمزم والركن الأسود يباهي بها زمزم! وهو يريد الحجّ بعدها.
__________________
(١) مختصر تاريخ الدول : ١١٣.
(٢) شرح النهج للمعتزلي ٤ : ٥٨.
فعمل خالد بركة بفم الثقبة نُسبت إليه فقيل بركة القسري ، عملها بحجارة منقوشة ، واشتقّ من هذه البركة عيناً تجري في قصب من رصاص! إلى المسجد الحرام ، حتّى أظهرها في فوّارة تسكب في ساقية رخام بين الركن وزمزم.
ولمّا جرت وظهر ماؤها ، أمر خالد بنحر جُزر بمكّة قسمت بين الناس ، وعمل طعاماً دعا إليه الناس ، ثمّ صعد المنبر فقال : أيّها الناس احمدوا الله وادعوا لأمير المؤمنين الذي سقاكم الماء العذب بعد المالح الأُجاج الذي لا يطاق شربه (يعني زمزم).
فلم يجتمع على ذلك الماء اثنان من الناس ، بل ما زالوا أكثر ما كانوا على شرب زمزم! فلمّا رأى خالد ذلك تكلّم في خطبته على أهل مكّة بكلام قبيح يعنّفهم به على إقبالهم على زمزم وتركهم ذلك الماء.
ثمّ لم يُقم خالد بمكّة إلّاقليلاً حتّى سخط على امرأة قرشية فقذفها وأقبح في لفظه ، وبلغ ذلك سليمان فسخط على خالد ، فولّى طلحة بن داود الحضرمي على مكّة وأمره أن يعزل خالداً ويضربه بالسياط ثمّ يقيّده بالحديد ويحمله إلى سليمان ، ففعل الحضرمي ذلك (١).
وتزامن أن شرب عامل المدينة عثمان بن حيّان المرّي الخمر فقرف على عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفّان ، وبلغ ذلك سليمان ، فقلّدها أبا بكر بن محمّد بن حزم ، فضربه حدّين للخمر وللقذف أو القرف (٢) وحجّ سليمان سنة (٩٧ ه) فمرّ بالمدينة.
__________________
(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٩٣ ـ ٢٩٤ ، وفي مروج الذهب ٣ : ١٧٩ ، ذكر سبباً آخر : أنّ قرشياً هرب من خالد إلى سليمان فكتب إليه أن لا يعرض له فلمّا أتاه بالكتاب ضربه مئة سوط قبل أن يقرأ الكتاب!
(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٩٤.
سليمان يستفتي أبا حازم :
قال ابن قتيبة : حجّ سليمان ومعه محمّد بن شهاب الزُهْري ، ودخل المدينة زائراً لقبر رسول الله! فأقام بها ثلاثة أيّام ، وسأل : أمّا هاهنا رجل ممّن أدرك أصحاب رسول الله؟ فقيل : بلى هاهنا رجل يقال له أبو حازم ، فبعث إليه فجاءه وهو أقور أعرج وله عصا ، فدخل ووقف منتظراً للإذن وطال فطرح عصاه وجلس ... وطال المقال بينهما إلى أن قال له سليمان : يا أبا حازم ، مسألة : ما تقول فيها؟ قال : إن كان عندي علم أخبرتك به وإلّا فهذا الذي عن يسارك (الزُهْري) يزعم أنّه ليس شيء يُسأل عنه إلّاوعنده به علم! فقال سليمان : ما تقول في سلام الإمام من صلاته أواحدة أم اثنتان؟ فإن العلماء لدينا قد اختلفوا في ذلك علينا أشد الاختلاف! قال : أرميك في هذا بخبر شاف! ثمّ روى عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص عن أبيه أنّه شهد رسول الله يسلّم عن يمينه حتّى يُرى بياض خدّه الأيمن يجهر به ، ثمّ عن يساره كذلك!
فقال له الزهري : أيّها الرجل! اعلم ما تحدّث به ، فإنّ الحديث عن رسول الله صعب شديد إلّابالتثبّت واليقين! ثمّ التفت الزهري إلى سليمان وقال له : أصلحك الله ما سمعت بهذا الحديث من حديث رسول الله قطّ! فقال له أبو حازم : هذا من الثلث الذي لم يبلغك وبقي عليك سماعه! ثمّ قام (١).
وصار سليمان إلى الحجّ وعاد منه إلى بيت المقدس فنفى عنها المجذومين (٢).
وكان الحجّاج لما عزل يزيد بن المهلّب الأزدي عن خراسان وولّاها قتيبة بن مسلم الباهلي وأمره أن يستوثق بني المهلّب ويشخصهم إليه ، فأشخص إليه
__________________
(١) الإمامة والسياسة ٢ : ١١٠ ـ ١١٥.
(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٩٨ ـ ٢٩٩.
قتيبة ولد المهلّب حبسهم جميعاً وطالبهم بستّة آلاف ألف (مليون) درهم ، وعذّبهم في ذلك أشدّ العذاب ، ثمّ فرّوا من حبسه إلى الوليد بالشام ، فكأ نّه ساعدهم في ذلك خليفة الحجّاج يزيد بن أبي مسلم.
فلمّا مات الحجّاج واستخلفه هذا وولّى سليمان استقدم هذا وكان قصيراً خفيف البدن دميم الخلقة ، فاستصغره واستحقره. وكان سليمان قد قرّب إليه يزيد بن المهلّب الأزدي فقال له : خذه إليك فعذّبه بألوان العذاب حتّى تستخرج منه الأموال. وكان ابن المهلّب يعرف له جميل فعله به فقام وقال : يا أمير المؤمنين أنا أعلم به ، ما كان هذا ممّن يحوي المال. فتركه.
وكان قد اجتمع عنده خالد القسري وابن حيّان المرّي ، وسخط سليمان كذلك على موسى بن نُصير اللخمي عامل إفريقية وفاتح الأندلس وما والاها فأخذه سليمان بمئة ألف دينار وعزله ، واجتمع معهم عند سليمان الحكم بن أيوب ويوسف بن عمر الثقفي ، فدفعهم وأصحابهم إلى ابن المهلّب وأصحابه وأمره أن يعذّبهم حتّى يستخرج منهم أموالهم. ثمّ أعاده سليمان على العراق وخراسان!
فصار ابن المهلّب إلى العراق وعزل عمّال الحجّاج وعذّبهم ، ثمّ استخلف على العراق ونفذ إلى خراسان ، فتتبّع أصحاب قتيبة الباهلي وقراباته وسامهم سوء العذاب يطالبهم بالأموال التي صارت إليهم. وخالفه أهل جرجان فحاصرهم حتّى نزلوا على حكمه فقتل منهم مقتلة عظيمة (١)!
__________________
(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٩٤ ـ ٢٩٦. وفي تاريخ خليفة : لم تكن جرجان يومئذ مدينة وإنّما هي جبال محيطة ، وفي البحر جزيرة تحوّل إليها صول ملك جرجان ، وكان ابن المهلّب في ثلاثين ألفاً ، فحاصر صولاً ، فكان صول يخرج في الأيّام فيقاتلهم شهوراً حتّى صالحهم يزيد على خمس مئة ألف درهم يؤدونها كلّ عام ، وبعثوا إليه بألف رأس (؟) وطيالسة وثياب ، وخلّف عليهم يزيد جمعاً من المسلمين وتركهم.
ثمّ رجع إلى جرجان ثمّ إلى نيسابور ، فولّى أخاه مدركاً على بلخ ، وأخاه محمّداً على مرو ، وابنه مخلّداً على سمرقند.
ولمّا اختلّ أمر عمّال الحجّاج أخلّ الجند الذين كانوا مع محمّد بن القاسم الثقفي بالسِند بمراكزهم وعادوا إلى بلادهم ، فوجّه الحجّاجُ سليمانَ حبيب بن المهلّب إليها فأخذ القاسم وقيّده وحبسه (١)!
أول أمر بني العباس :
بعد وفاة عبد الله بن العباس غادر ابنه علي بن عبد الله الحجاز إلى الشام فنزل في بلدة الحُميمة من أرض الشراة من نواحي دمشق ، ورُزق بها أولاداً منهم محمّد بن علي (٢).
__________________
فغدروا بهم وقتلوهم ، فحلف إن ظفر بهم أن يأكل خبزاً من طحين مطحون بدمائهم! ثمّ سار إليهم فتحصّنوا منه ، فقاتلهم شهوراً اخرى حتّى أَعطوا بأيديهم ونزلوا على حكمه ، فسبى ذراريهم ، وقاد منهم اثني عشر ألفاً إلى وادي الأندرهز من جرجان يجري فيه ماء وعليه أرحاء ، فقتلهم هناك ثمّ أجرى الماء على الدماء لتطحن الأرحاء بدمائهم فيطحن ويختبز ويأكل منه لحلفه!
قال : وخالفه اصطهبد طبرستان فغزاه ، فسأله الصلح فأبى ، فاستعان الاصطهبد بأهل الجبال والديلم فالتقوا عند سند الجبل فاقتتلوا قتالاً شديداً ثمّ هزمهم الله فصعدوا الجبل وسألوا الصلح ، فصالحهم ابن المهلب على أربعمئة رجل (؟) مع كلّ منهم كسوة : برنس وطيلسان وشقة حرير وجام فضة! ومعهم أربعمئة حمل زعفران أو قيمته! وسبعمئة ألف درهم كلّ عام. تاريخ خليفة : ٢٠١ ، وانظر تفاصيل ذلك في تاريخ الطبري ٦ : ٥٣٢ ـ ٥٤١ ، حوادث (٨٨ ه).
(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٩٦.
(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٩٠.
وقدم إلى دمشق أبو هاشم عبد الله بن محمّد بن الحنفيّة (١) ومن معه سنة (٩٧ ه) على سليمان ، فقضى حوائجه وحوائج من معه وأجازه ، فعاد على بلاد فلسطين ، وبعث سليمان قوماً إلى بلاد لخم وجذام بفلسطين وأرسل معهم لبناً مسموماً ليسقوه أبا هاشم ، وكأنّه ظنّ به ظنوناً! فلمّا مرّ أبو هاشم بهم واستسقاهم سقوه ذلك اللبن ثمّ قوّضوا من ذلك الموضع ، فلمّا استقر في جوفه أحسّ بالسمّ فأرسل عليهم فلم يجدوهم.
فأمرهم أبو هاشم أن يعرّجوا على الحُميمة بأرض الشراة من نواحي دمشق إلى ابن عمه محمّد بن علي بن عبد الله بن العباس ، فلمّا قدم عليه قال له : يابن العم! هذه وصيّة أبي إليّ ، وفيها : أنّ الأمر صائر إليك وإلى ولدك ، على ما سمع وروى عن أبيه علي بن أبي طالب ، فاقبضها إليك. ولتكن دعوتكم بخراسان ، ولا تعدُ مرو ومرو الرود وأبيورد ونَسا ، فإنّي أرجو أن تتمّ دعوتكم ويُظهر الله أمركم ، وإيّاك من نيسابور وطوس وأبر شهر! (فلعلّها كانت تتشيّع لأبناء الحسين عليهالسلام) وأقصِ قيس وتميم وقرِّب أهل الحيّ من ربيعة! وليكن دُعاتك اثني عشر نقيباً!
__________________
(١) كان بينه وبين ابن عمّه زيد بن الحسن بن علي عليهالسلام كلام فشكاه زيد إلى الوليد بن عبد الملك وأراد قتله! فوفد السجاد عليهالسلام على الوليد وسأله إطلاقه فأطلقه له ، كما عن منتقلة الطالبيين المخطوط : ٤٢ في شرح الأخبار ٣ : ٢٨٤ في الحاشية ١. ومع هذا وقف بعد وفاة السجاد على الباقر عليهماالسلام وحوله جماعة من الناس يستفتونه ، فحسده أبو هاشم وشتمه وشتم أباه! وقال تدَّعون وصية رسول الله بالأباطيل وهي لنا دونكم! فقال له الباقر عليهالسلام : قل ما بدا لك! فأنا ابن فاطمة وأنت ابن الحنفية!
فوثب الناس إلى أبي هاشم بحصى المسجد ونعالهم يرمونه ويضربونه حتّى أخرجوه من المسجد! كما في شرح الأخبار ٣ : ٢٨٤ ، وعليه فهو ناصبي خبيث ، ومنه دعوة الكيسانية.
فإذا دخلت سنة مئة فابعث رسلك ودعاتك. ثمّ هذا الرجل ميسرة النبّال مولى الأزد فاجعله صاحبك بالعراق ، فهم أهل اختلاف فلا يكن رسولك إلّامنهم ، وهم شيعتك ومحبّوك! فأ مّا الشام فليست بلادكم! ثمّ دفع الكتاب إليه ثمّ مات (١).
سليمان في غزو الرومان :
أغار الروم على اللاذقية من نواحي حمص فذهبوا بما فيها ثمّ أحرقوها! وبلغ ذلك سليمان فعاد من الحجّ وخرج إلى ناحية دابق من نواحي قنّسرين (من قرى حلب) وانتدب أخاه مَسلمة بن عبد الملك وأمره أن يقصد القسطنطينية فيقيم عليها حتّى يفتحها! فسار مَسلمة حتّى فتح مدينة الصقالبة (/ زگرُب) ثمّ بلغ القسطنطينية وأقام عليها حتّى زرع وأكل ممّا زرع ، وأصاب المسلمين برد وجوع ، وبلغ سليمان ما فيه مَسلمة ومن معه فأمدّهم بعمرو بن قيس في البر وعمر بن هُبيرة الفزاري في البحر حتّى بلغ خليج القسطنطينية ووجّه سليمان لأوائل سنة (٩٩ ه) ابنه داود إلى أرض الروم ، ومَسلمة منيخ على القسطنطينية ، ففتح داود في طريقه حصن المرأة من نواحي مالطا.
وكان سليمان رجلاً طويلاً أبيض قصيف البدن لم يشب ، وله جمال وفصاحة مقال ، ولكنّه كان أكولاً لا يكاد يشبع ... ومرض فكتب كتاباً وعهد إلى ابن عمّه عمر بن عبد العزيز ثمّ لأخيه يزيد بن عبد الملك (سبط يزيد بن معاوية وبه سمّى) ، وأحضر أهل بيته وقال لهم : بايعوا لمن في هذا الكتاب. ثمّ دفع الكتاب إلى رجاء بن حَيوة الكندي ليأخذه إلى مسجد دابق ، فأخذه ودعا مَن بها من أهل بيت سليمان وقال لهم : بايعوا مَن في هذا الكتاب ، ثمّ قرأ الكتاب فلمّا بلغ
__________________
(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٩٦ ـ ٢٩٨.
إلى اسم عمر بن عبد العزيز قال هشام بن عبد الملك : لا والله لا ابايع! فقال رجاء : إذاً أضرب عنقك! ثمّ أخذ بضبع عمر فأجلسه على المنبر ، فقاموا وبايعوه ، فلمّا فرغوا من البيعة قال لهم : قوموا إلى صاحبكم فقد مات ، فقاموا ودفنوه في عاشر صفر سنة (٩٩ ه). وكان له عشرة من الولد الذكور (١) وكان قد بايع لابنه أيوب ولكنّه مات قبله.
فلمّا ولّى عمر بن عبد العزيز أمر من كان له حميم في حصار قسطنطينية أن يبعثوا إليهم بدوابّ وطعام وبعث معهم فأغاثهم وأذن بعودتهم فعادوا (٢).
وذكر ابن العبري الملطي بعض تفاصيل الجيش فقال : سار مَسلمة في مئة وعشرين ألفاً وعبر الخليج وحاصر مدينة القسطنطينية ، وكان ملكهم يومئذ ثاوذوسيوس ، فلمّا اشتد الحصار بأهلها أرسلوا إلى مَسلمة يعطونه عن كلّ رأس ديناراً ، فأبى إلّاأن يفتحها عنوة. فقالت الروم للبطريرك لاون : إن صرفت المسلمين عنّا نُملّكك علينا! فاستوثق منهم ، وأتى إلى مَسلمة وطلب منه الأمان لنفسه وذويه ، ووعده أن يفتح له المدينة ولكن عليه أن يتنحّى بجيشه عنهم ليطمئنّوا ثمّ يكرّ عليهم! فقبل مسلمة ووعده بذلك! ثمّ ارتحل مَسلمة إلى بعض القرى ، فدخل لاون ولبس التاج وقعد على سرير الملك ، واعتزل الملك ثاوذوسيوس إلى بعض الكنائس.
__________________
(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٩٩ و ٣٠٠. وفي مروج الذهب ٣ : ١٨٢ : أنّه دعا رجاء بن حَيوة ومحمّد بن شهاب الزهري ومكحولاً وغيرهم من العلماء الذين كانوا في عسكره ، فكتب وصيّته وأشهدهم عليها. وأ نّه لمّا فُرغ من دفنه قام الزهري فقرأ عليهم الكتاب. فكان أوّل من بايعه يزيد بن عبد الملك ، وقام هشام وسعيد وانصرفا بلا بيعة ثمّ بايعا بعد يومين.
(٢) تاريخ خليفة : ٢٠٤. وفي تاريخ مختصر الدول : ١١٤ ذكر عدد الجيش : مئة وعشرين ألفاً!
وكان مَسلمة قد تنحّى بطعام جيشه ثمّ أمر كلّ فارس أن يحمل معه مدّين من الطعام على عجز فرسه ليكرّ على القسطنطينية! وأعدّ لاون الرجال والسفن فنقلوا كلّ طعام المسلمين في ليلة إلى القسطنطينية ولم يتركوا منه إلّاما لا يذكر! ونزل مَسلمة بفناء القسطنطينية ثلاثين شهراً ، واستجاش لاون البُلغار والإفرنج في السفن على المسلمين ، والرومان يحاربونهم من الداخل ، فلقى المسلمون ما لم يلقه أي جيش آخر حتّى أكلوا الدواب والجلود وأُصول الشجر والورق! ونزل الشتاء فلم يقدر سليمان أن يمدّهم حتّى مات (١).
من بدع عهد سليمان وعلّة موته :
قال المسعودي : من أحداث عهد سليمان بمكّة على يد خالد القَسري أنّه بلغه قول شاعر :
يا حبّذا الموسم من موقف |
|
وحبّذا الكعبة من مسجد |
وحبّذا اللاتي تزاحمننا |
|
عند استلام الحجر الأسود |
فأمر خالد بالتفريق في الطواف بين الرجال والنساء! وأدار صفوف الناس في الصلاة حول الكعبة ، وقد كان قبل ذلك بخلافه!
والتزم سليمان الثياب الرقاق والوشي : جُباباً وأردية وسراويل وعمائم وقلانس ، فلا يدخل عليه أحد من أهل بيته إلّافي الوشي ، بل وعمّاله وأصحابه
__________________
(١) مختصر تاريخ الدول لابن العبري الملطي : ١١٤ ، وقال : أصبح لاون محارباً لمَسلمة ، وقد خدعه خديعة لو كانت امرأة لعُيّبت بها! وسلم مَسلمة من ذلك بأقلام الإسلام! فمرّوا عليه مرور الكرام! نعم سبق المسعودي في التنبيه والإشراف : ١٤١ بمثل مقال هذا الملطي ، وسمّاه : تيدوس الأرمني وسمّى الخادع : أليون بن قسطنطين المرعشي ، وقال : قفل مَسلمة في سنة (١٠٠ ه) بعد خطب طويل وعلى كره شديد!
وكلّ من في داره ، ولا أحد من خدّامه حتّى الطباخ إلّافي الوشي ، فعُمل في أيّامه الوشي الجيّد باليمن والكوفة والاسكندرية ولبس الناس جميعاً الوشي!
وكان شبعه من الطعام في كلّ يوم مئة رطل بالعراقي! وخرج من الحمّام فاستعجل الطعام فقدّم إليه عشرون خروفاً أكل أجوافها مع أربعين خبز رقاق! وربّما يأتيه الطبّاخون بالسفافيد التي فيها الدجاج المشوي ، وعليه جبّة الوشي الثقيلة ، فلنهمه وحرصه يقبضها بكمه! وكان عند الرشيد العباسي جبابه وفي أكمامها آثار دهون الدجاج ، وأعطى جبّة منها للأصمعي فكان يلبسها (١)!
وقال ابن الوردي : قيل : أكل مرّة جَدياً وستّ دجاجات وسبعين رمانة وكثيراً من الزبيب. وقيل في سبب موته : إنّ رجلاً من نصارى دابق أتاه بزنبيل كبير مملوء تيناً وآخر مملوء بيضاً مسلوقاً ، فأخذ يأكل تينة وبيضة وهكذا حتّى فرغا مرض بالتخمة ، فلمّا اشتدّ مرضه أوصى بالخلافة لعمر بن عبد العزيز بن مروان ، وامّه ليلى ابنة عاصم بن عمر بن الخطاب (٢).
وقال السيوطي : كان بنو اميّة أماتوا الصلاة بتأخيرها عن أوّل وقتها فأحيا سليمان الصلاة لأوّل مواقيتها (وكان بنو اميّة قد أشاعوا الغناء) فأخذ سليمان ينهى عن الغناء (٣)!
عمر بن عبد العزيز عزيز سليمان :
وكان قد اتخذ عمر بن عبد العزيز له كالوزير فكان يمتثل أوامره في الخير ،
__________________
(١) مروج الذهب ٣ : ١٧٥ ـ ١٧٦.
(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٧٢ ، وشرح النهج للمعتزلي ١٨ : ٣٩٩ وقال : كان هذا الديراني صديقه من قبل.
(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٦٩.
ومع ذلك كان الغالب عليه رجاء بن حَيوة الكندي فلمّا اشتدّ مرضه قال لرجاء : مَن لهذا الأمر بعدي؟ أَستخلف ابني؟ قال : ابنك (الكبير داود) غائب (في حصار الروم لا تدري أهو حيّ أم ميّت) والآخر صغير ، قال : فمن ترى؟ قال : عمر بن عبد العزيز. قال : أتخوّف أن لا يرضى به إخوتي ، قال : فاجعلها بعده لأخيك يزيد بن عبد الملك ، واكتب بذلك كتاباً تختم عليه وتدعوهم إلى بيعته مختوماً! فدعا بقرطاس وكتب العهد ودفعه إليه ، فخرج إليهم ، فقالوا : لا نبايع ، فرجع فأخبره ، فقال مُر صاحب الشرط والحرس فاجمعهم ومرهم ومن أبى فاضرب عنقه! فأمرهم فبايعوا ، ومات سليمان ففتح الكتاب فلمّا سمعوا : وبعده يزيد بن عبد الملك ، تراجعوا وتراضوا.
فلمّا أصعدوا عمر على المنبر جلس عليه طويلاً لا يتكلّم ثمّ مدّ يده إليهم فبايعوه ثمّ خطبهم خطبة قصيرة ثمّ نزل ، فأتوه بمركب الخليفة فقال : لا حاجة لي فيه إيتوني بدابّتي فأتوه بدابّته ، فانطلق إلى منزله ودعا بدواة وكُتب فكتب إلى عمّال الأمصار (١).
وقال ابن كثير : أخذ سليمان يستشير عمر بن عبد العزيز في بعض اموره ، وقال له : إنّا قد ولينا ما ترى وليس لنا علم بتدبيره ، فما رأيت من مصلحة العامة فمُر به فليكتب. فكان من ذلك أنّه ردّ الصلوات إلى مواقيتها (٢) فذلك ليس من سليمان بل من عمر.
وإنّما غضب سليمان على عمر بن عبد العزيز ثلاث مرّات :
الأُولى : أنّ عامل سليمان على خراج مصر كان اسامة بن زيد التنوخي ، فقدم عليه بما اجتمع عنده من الخراج وقال له : يا أمير المؤمنين ، إني ما جئتك
__________________
(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٧٠ ـ ٢٧١.
(٢) البداية والنهاية ٩ : ١٧٨.