مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-119-2
ISBN الدورة:
الصفحات: ٤٣٦
مقدمة المجلد الثاني بسم الله الرحمن
الرحيم الحمد لله رب
العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم السلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين وبعد ، فهذا هو
المجلد الثاني من العقائد الإسلامية وقد اشتمل على مجموعة مسائل : الرؤية والتشبيه والتجسيم ، وعدد من البحوث النافعة فيها . وقد حرصنا فيه على
استقصاء الأحاديث والآراء من مصادرها الأساسية في التفسير ، والحديث ، والفقه ، واللغة ، والتاريخ ، وغيرها . . لأن غرضنا أن يكون مرجعاً لكل باحث في هذا الموضوع ، يجد فيه بغيته بدون تعب ، وله بعد ذلك أن يوافقنا في الفهم والإستنتاج أو يخالفنا . إن توفير المادة
العلمية للباحث عمل محترم . . خاصة إذا كانت تعجز عنها قدرة الشخص الواحد لأنها موزعة في المصادر الكثيرة ، ومبثوثة في المتون الطويلة ، كما ترى في مسائل هذا المجلد . وبهذا المناسبة ندعو
القائمين على مراكز البحوث الإسلامية لأن يهتموا بهذا المنهج ، ويوجهوا طاقاتهم إلى هذا الهدف . . ففي ذلك خدمة كبيرة للبحث المقارن ، وعونٌ على فهم حقائق العقيدة والشريعة المقدسة ، والذين جاهدوا فينا
لنهدينهم سبلنا ، وإن الله لمع المحسنين . مركز المصطفى للدراسات الإسلامية علي الكوراني العاملي
الفصل الأول جذور مسألة الرؤية والتشبيه والتجسيم اعتقاد إخواننا السنة
أن الله تعالى يرى بالعين المقصود بمسألة
الرؤية : إمكان أن يرى الإنسان الله تعالى بحاسة العين في الدنيا أو في الآخرة . والمقصود بالتشبيه
والتجسيم : تشبيه ذات الله تعالى بشئ من مخلوقاته . وقد نفى كل ذلك نفياً
مطلقاً أهل البيت عليهمالسلام وأم المؤمنين عائشة وجمهور الصحابة ، وبه قال الفلاسفة والمعتزلة وغيرهم ، واستدلوا على ذلك بالقرآن بمثل قوله تعالى ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ ) وقوله تعالى ( لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ )
. . إلخ . واستدلوا أيضاً بالعقل فقالوا إن القول بإمكان رؤيته سبحانه بالعين يستلزم تشبيهه وتجسيمه لا محالة ، لأن ما يرى بالعين لا يكون إلا وجوداً مادياً يشبه غيره
بأنه محدود بالمكان والزمان . بينما تبنى الحنابلة
وأتباع المذاهب الأشعرية وهم أكثر الحنفية والمالكية والشافعية ، القول برؤية الله تعالى بالعين في الدنيا أو في الآخرة بسبب روايات
رووها ، وبعض الآيات المتشابهة التي يبدو منها ذلك ، وحاولوا أن يؤولوا الآيات المحكمة والأحاديث الصحيحة النافية لإمكان الرؤية بالعين .
وبسبب الإرتباط بين مسائل الرؤية والتشبيه والتجسيم والإشتراك في بحوثها ونصوصها جعلناها تحت عنوان واحد .
متى ظهرت أحاديث الرؤية والتشبيه
تدل نصوص الحديث والتاريخ على أن الجو الذي كان سائداً في صحابة النبي في عهده صلىاللهعليهوآله وعهد الخليفة أبي بكر هو الإنسجام مع آيات القرآن النافية لإمكان الرؤية ، وأن الله تعالى ليس من نوع الأشياء التي ترى بالعين أو تحس بالحواس الخمس . . لأنه وجود أعلى من الأشياء المادية ، فهو يدرك بالعقل ويحس بالقلب والبصيرة لا بالبصر .
ويبدو أن أفكار التشبيه والرؤية ظهرت بين المسلمين في عهد الخليفة عمر وما بعده ، فنهض أهل البيت عليهمالسلام وبعض الصحابة لردها وتكذيبها .
وتدل أحاديث التكذيب التي رويت عن أم المؤمنين عائشة أنها كغيرها فوجئت وصدمت بهذه المقولات الغريبة عن عقائد الإسلام ، المناقضة لما بَلَّغه النبي صلىاللهعليهوآله عن ربه تعالى ، سواء في آيات القرآن أو في أحاديثه الشريفة ! ولذلك أعلنت أم المؤمنين أن هذه الأحاديث مكذوبة ، بل هي فرية عظيمة على الله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوآله ومن واجب المسلمين ردها وتكذيبها ! !
عائشة تكذب أحاديث الرؤية والتشبيه
ـ صحيح البخاري ج ٦ ص ٥٠
. . . عن عامر عن
مسروق قال قلت لعائشة رضي الله عنها : يا أمتاه هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه ؟ فقالت لقد قَفَّ شعري مما قلت ! أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب : من حدثك أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب
ثم
قرأت : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ، وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب ، ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب ثم قرأت : وما تدري نفس ماذا تكسب غداً ، ومن حدثك أنه كتم فقد كذب ثم قرأت : يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الآية ، ولكنه رأى جبرئيل عليهالسلام في صورته مرتين . ـ صحيح البخاري ج ٨ ص
١٦٦ . . . عن الشعبي عن
مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت : من حدثك أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب ، وهو يقول : لا تدركه الأبصار ، ومن حدثك أنه يعلم الغيب فقد كذب ، وهو يقول : لا يعلم الغيب إلا الله . انتهى . وروى
نحوه في ج ٢ جزء ٤ ص ٨٣ وج ٣ جزء ٦ ص ٥٠ وج ٤ ص ٨٣ وقد استوفينا بقية مصادره في كتاب ( الوهابية والتوحيد ) . موج الفرية جاء من
الشام مع أن الخليفة عمر
أخذ من ثقافة كعب الأحبار وجماعته وأجاز لهم رسمياً أن يحدثوا المسلمين في مساجدهم ، وأن يكتب المسلمون عنهم ، ولكن روايات الرؤية واجهت سداً من الصحابة فبقي انتشارها محدوداً في زمن الخليفة عمر ، ولكن الدولة الأموية تبنت نشرها بقوة فارتفعت موجتها من الشام ، ووصلت إلى المدينة فاستنكرها أهل البيت وعائشة والصحابة ! تدل الرواية التالية
على أن الشام كانت مركز القول بالتشبيه والتجسيم ، وسبب ذلك أن كعب الأحبار وجماعته اتخذوا الشام قاعدة لهم وكانوا مقربين من معاوية ، وقد أطلق يدهم ليملوا أفكارهم وثقافتهم على المسلمين ، ويظهر أن أول من تأثر بهم وتبعهم أهل الشام حتى تأصلت أفكارهم فيهم . ومن الظواهر الملفتة
أن الشام في تاريخنا الإسلامي كانت موطناً للتشبيه
والتجسيم أكثر من أي قطر إسلامي آخر ! فلا توجد في العالم الإسلامي منطقة يعتبر فيها تأويل صفات الله تعالى التي يتوهم منها التشبيه والتجسيم جريمةً وخروجاً عن الدين إلا الشام ، فقد صارت كلمة ( متاولة ) تساوي كلمة كفار أو أسوأ منها ، وكم من مسلم قتل في بلاد الشام بجرم أنه ( متوالي ) أي متأول ! وما زالت هذه الكلمة إرثاً عند العوام ينبزون بها شيعة أهل البيت عليهمالسلام وهي في فهم عوامهم أسوأ من الكفر أو مساوقة له !
ـ قال الصدوق في التوحيد ص ١٧٩
حدثنا أبو طالب المظفر بن جعفر بن المظفر العلوي السمرقندي رضياللهعنه قال : حدثنا جعفر بن محمد بن مسعود ، عن أبيه محمد بن مسعود العياشي قال : حدثنا الحسين بن أشكيب قال : أخبرني هارون بن عقبة الخزاعي ، عن أسد بن سعيد النخعي قال : أخبرني عمرو بن شمر ، عن جابر بن يزيد الجعفي قال : قال محمد بن علي الباقر عليهماالسلام : يا جابر ما أعظم فرية أهل الشام على الله عز وجل ، يزعمون أن الله تبارك وتعالى حيث صعد إلى السماء وضع قدمه على صخرة بيت المقدس ، ولقد وضع عبد من عباد الله قدمه على حجر فأمرنا الله تبارك وتعالى أن نتخذه مصلى ، يا جابر إن الله تبارك وتعالى لا نظير له ولا شبيه ، تعالى عن صفة الواصفين ، وجلَّ عن أوهام المتوهمين ، واحتجب عن أعين الناظرين ، لا يزول مع الزائلين ، ولا يأفل مع الآفلين ، ليس كمثله شئ وهو السميع العليم .
ـ ورواه العياشي في تفسيره ج ١ ص ٥٩ ، ورواه المجلسي في بحار الأنوار ج ١٠٢ ص٢٧٠ وقال : بيان : الظاهر أن المراد بالعبد النبي صلىاللهعليهوآله حيث وضع قدمه الشريف عليه ليلة المعراج وعرج منه كما هو المشهور ويحتمل غيره من الأنبياء والأوصياء عليهمالسلام وعلى أي حال يدل على استحباب الصلاة عليه . انتهى . ولكن الصحيح ما قاله الرباني في هامش بحار الأنوار :
بل الظاهر من الحجر
أن المراد به مقام إبراهيم وبه أثر قدمه الشريف ، وقد أمرنا الله عز وجل بقوله : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ، أن نتخذه مصلى . انتهى . ولا يبعد أن يكون
مقصود الإمام الباقر عليهالسلام بتعبيره ( أهل الشام ) بني أمية ، وهو تعبير يستعمله عنهم أهل البيت عليهمالسلام وهذا يدعونا إلى القول بأن سبب عدم
نجاح أفكار كعب في المدينة المنورة أو في الكوفة أو محدودية نجاحها في القرن الأول ، الخليفة عمر رغم أنه أعطى كعباً مكانة عظيمة في دولة الخلافة وكان يقبل أفكاره ، ولكن كان يوجد في عهده صحابة كثيرون يجابهون كعباً ويردون إسرائيلياته كما شاهدنا في موقف عائشة ، وكما نرى في الموقف التالي لعلي عليهالسلام حيث غضب من كلام كعب ونهض ليخرج من مجلس الخليفة عمر محتجاً على أفكاره التجسيمية اليهودية ! ـ فقد روى المجلسي في
بحار الأنوار ج ٤٤ ص ١٩٤ عن ابن عباس أنه حضر
مجلس عمر بن الخطاب يوماً وعنده كعب الحبر إذ قال : يا كعب أحافظ أنت للتوراة . قال كعب : إني لأحفظ
منها كثيراً . فقال رجل من جنبة
المجلس : يا أمير المؤمنين سله أين كان الله جل ثناؤه قبل أن يخلق عرشه ، ومم خلق الماء الذي جعل عليه عرشه . فقال عمر : يا كعب هل عندك من هذا علم ؟ فقال كعب : نعم يا
أمير المؤمنين نجد في الأصل الحكيم أن الله تبارك وتعالى كان قديماً قبل خلق العرش وكان على صخرة بيت المقدس في الهواء ، فلما أراد أن يخلق عرشه تفل تفلة كانت منها البحار الغامرة واللجج الدائرة ، فهناك خلق عرشه من بعض الصخرة التي كانت تحته ، وآخر ما بقي منها لمسجد قدسه ! قال ابن عباس : وكان
علي بن أبي طالب عليهالسلام حاضراً فعظم على ربه وقام
على قدميه ونفض ثيابه
فأقسم عليه عمر لما عاد إلى مجلسه ففعله .
قال عمر : غص عليها يا غواص ، ما تقول يا أبا الحسن فما علمتك إلا مفرجاً للغم .
فالتفت علي عليهالسلام إلى كعب فقال :
غلط أصحابك وحرفوا كتب الله وفتحوا الفرية عليه ! يا كعب ويحك إن الصخرة التي زعمت لا تحوي جلاله ولا تسع عظمته ، والهواء الذي ذكرت لا يحوز أقطاره ، ولو كانت الصخرة والهواء قديمين معه لكان لهما قدمته ، وعز الله وجل أن يقال له مكان يومى إليه ، والله ليس كما يقول الملحدون ولا كما يظن الجاهلون ، ولكن كان ولا مكان بحيث لا تبلغه الأذهان ، وقولي ( كان ) عجز عن كونه وهو مما علم من البيان يقول الله عز وجل ( خَلَقَ الْإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ) فقولي له ( كان ) ما علمني من البيان لأنطق بحججه وعظمته ، وكان ولم يزل ربنا مقتدراً على ما يشاء محيطاً بكل الأشياء ، ثم كوَّن ما أراد بلا فكرة حادثة له أصاب ، ولا شبهة دخلت عليه فيما أراد ، وإنه عز وجل خلق نوراً ابتدعه من غير شئ ، ثم خلق منه ظلمة ، وكان قديراً أن يخلق الظلمة لا من شئ كما خلق النور من غير شئ ، ثم خلق من الظلمة نوراً وخلق من النور ياقوتة غلظها كغلظ سبع سماوات وسبع أرضين ، ثم زجر الياقوتة فماعت لهيبته فصارت ماء مرتعداً ولا يزال مرتعداً إلى يوم القيامة ، ثم خلق عرشه من نوره وجعله على الماء ، وللعرش عشرة آلاف لسان يسبح الله كل لسان منها بعشرة آلاف لغة ليس فيها لغة تشبه الأخرى ، وكان العرش على الماء من دونه حجب الضباب ، وذلك قوله : وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ .
يا كعب ويحك ، إن من كانت البحار تفلته على قولك ، كان أعظم من أن تحويه صخرة بيت المقدس أو يحويه الهواء الذي أشرت إليه أنه حل فيه ، فضحك عمر بن الخطاب وقال : هذا هو الأمر وهكذا يكون العلم لا كعلمك يا كعب ، لا عشت إلى زمان لا أرى فيه أبا حسن . انتهى .
وفي هذه الرواية مادة
غنية للبحث نكتفي منها بأن كعب الأحبار طرح التجسيم رسمياً في دار الخلافة ومجلس الخليفة ولم يرده إلا علي عليهالسلام وقد قبل الخليفة تنزيه
عليّ
لله تعالى ووبخ كعب الأحبار في ذلك المجلس ، ولكن يظهر أنه قبل منه التجسيم بعد ذلك كما سيأتي في أحاديث الخليفة عن تجسيم الله تعالى ، وأنه يجلس على عرشه ويطقطق العرش من ثقله . . إلخ . وابن عباس يحكم بشرك
من يشبه الله تعالى بغيره ـ قال الديلمي في
فردوس الأخبار ج ٤ ص ٢٠٦ ابن عباس : من شبه
الله عز وجل بشئ أو ظن أن الله عز وجل يشبهه شئ ، فهو من المشركين . ـ وروى الطبري في
تفسيره ج ٩ ص ٣٨ عن ابن عباس قوله
تعالى : سُبْحَانَكَ
تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ يقول : أنا أول من يؤمن أنه لا يراك شئ من خلقك . ـ وقال النويري في
نهاية الإرب ج ٧ جزء ١٣ ص ٢١١ قال وهب : واختلف
العلماء في معنى التجلي ، قال ابن عباس : ظهر نوره للجبل . ـ وقال ابن قيم
الجوزية في زاد المعاد ج ٣ ص ٢٩ ـ ٣٠ واختلف الصحابة رضي
الله عنهم هل رأى ربه تلك الليلة أم لا ؟ فصح عن ابن عباس أنه رأى ربه ، وصح عنه أنه قال : رآه بفؤاده . انتهى . وقال ناشر الكتاب
الشيخ عبد القادر عرفان في هامشه : لم أقف على هذه
الرواية في الصحيح بل الذي صح عن ابن عباس رضياللهعنه ما جاء عند مسلم في الإيمان ١٧٦ / ٢٨٥ في قوله تعالى : مَا كَذَبَ
الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ
وقوله تعالى : وَلَقَدْ
رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ قال : رآه بفؤاده مرتين . وأخرجه الترمذي في التفسير . ( ٣٢٨٠
) . ثم قال ابن قيم
الجوزية : وصح عن عائشة وابن مسعود إنكار ذلك وقالا : إن قوله ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى إنما هو جبريل . وصح عن أبي ذر أنه سأله هل رأيت ربك ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : نور ، أنى أراه ! أي : حال بيني وبين
رؤيته النور ، كما قال في لفظ آخر : رأيت نوراً . وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الصحابة على أنه لم يره .
ثم قال ابن قيم الجوزية : قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه : وليس قول ابن عباس : إنه رآه مناقضاً لهذا ولا قوله رآه بفؤاده وقد صح عنه أنه قال : رأيت ربي تبارك وتعالى ولكن لم يكن هذا في الإسراء ولكن كان في المدينة لما احتبس عنهم في صلاة الصبح ثم أخبرهم عن رؤية ربه تبارك وتعالى تلك الليلة في منامه ، وعلى هذا بنى الإمام أحمد قدسسره وقال : نعم رآه حقاً فإن رؤيا الأنبياء حق ولا بد ، ولكن لم يقل أحمد قدسسره أنه رآه بعيني رأسه يقظة ، ومن حكى عنه ذلك فقد وهم عليه ، ولكن قال مرة رآه ، ومرة قال رآه بفؤاده ، فحكيت عنه روايتان ، وحكيت عنه الثالثة من تصرف بعض أصحابه أنه رآه بعيني رأسه ، وهذه نصوص أحمد موجودة ليس فيها ذلك . انتهى .
وقد كفانا ناشر الكتاب الجواب على كلام ابن تيمية أيضاً حيث قال في هامشه :
( ٦ ) جزء من حديث ضعيف أخرجه أحمد في مسنده ٣٤٨٤ / ١ من طريق أبي قلابة عن ابن عباس رضياللهعنه . وأبو قلابة ـ واسمه عبد الله بن زيد الجرمي ـ لم يسمع من ابن عباس ـ التهذيب ٥ ـ ١٩٧ ومن طريقه أخرجه الترمذي ٣٢٣٣ وقال : وقد ذكر بين أبي قلابة وبين ابن عباس في هذا الحديث رجلاً . وقد رواه قتادة عن أبي قلابة عن خالد بن اللجلاج عن ابن عباس اهـ . أقول : لم يسمع قتادة من أبي قلابة . تهذيب الكمال ٣٢٦٦ / ١٠ ط . دار الفكر وأخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية رقم ١٢ و ١٣ و ١٤ وتعقبه بقوله : أصل هذا الحديث وطرقه مضطربة قال الدارقطني : كل أسانيده مضطربة ليس فيها صحيح . . . وقال أبو بكر البيهقي : قد روي من أوجه كلها ضعاف . . . وقال أبو زرعة فيما نقله عنه المزي في تحفة الأشراف ٤ / ٣٨٣ عن أحمد بن حنبل : حديث قتادة هنا ليس بشئ . . . وأخرجه ابن خزيمة في كتاب التوحيد ص ٣١٩ ـ ٣٢٠ والآجري في الشريعة ص ٤٩٦ والترمذي بنحوه ٣٢٣٤ وابن أبي عاصم في السنة ٤٦٩ وأبو يعلى ٢٦٠٨ من طرق عن ابن عباس .
وتعقبه الحافظ ابن
حجر في ( النكت الظراف ٤ / ٣٨٢ نقلاً عن محمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة قوله : هذا حديث اضطرب الرواة في إسناده وليس يثبت عند أهل المعرفة . وفي الباب عن جابر بن سمرة رضياللهعنه عند ابن أبي عاصم في السنة ٤٦٥ وعن أبي أمامة رضياللهعنه في المصدر المذكور ٤٦٦ وعن ثوبان رضياللهعنه أيضاً برقم ٤٧٠ وعند البزار ٢١٢٨ وعن أم الطفيل عن ابن أبي عاصم ٤٧١ وعن أبي رافع عند الطبراني في الكبير ٩٣٨ وعن ابن عمر عند البزار ٢١٢٩ من طرق ضعيفة أو واهية لا يعتد بها ولا تصح للإحتجاج بها ، والله تعالى أعلم . وقد تقدم القول في هذا الحديث في أول الكتاب . راجع الفهرس أخي الكريم رحمك الله تعالى . انتهى . ـ وروى المجلسي في
بحار الأنوار ج ٣ ص ٣٦ ٢٥ ـ لي يد : ابن
المتوكل عن السعدآبادي ، عن البرقي ، عن أبيه ، عن أحمد ابن النضر ، عن محمد بن مروان ، عن محمد بن السائب ، عن أبي صالح ، عن عبد الله بن عباس في قوله عز وجل : فَلَمَّا أَفَاقَ
قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ
، قال يقول : سبحانك تبت إليك من أن أسألك رؤية ، وأنا أول المؤمنين بأنك لا ترى . انتهى . والظاهر أن قصد ابن
عباس من إنكار التشبيه والرؤية هو ما ادعوه في زمانه وردت عليه عائشة وأكدت أنه إفتراء . وهذه الرواية وغيرها تعارض ما رووه عن ابن عباس من القول بأن الله تعالى يرى بالعين أو أن النبي صلىاللهعليهوآله رأى ربه بعينه . وأبو هريرة يوافق
عائشة وابن عباس وابن مسعود يظهر أن أبا هريرة
كان يوافق عائشة وابن عباس ويروي أحاديث نفي التشبيه والرؤية . . إلى أن غلب الجو القائل بالرؤية فرويت عنه أحاديثها ! قال
ابن ماجة في سننه ج ٢ ص ١٤٢٦ :
. . . عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الميت يصير إلى القبر فيجلس الرجل الصالح في قبره غير فزع ولا
مشعوف ، ثم يقال له فيم كنت ؟ فيقول : كنت في الإسلام فيقال له : ما هذا الرجل فيقول : محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه فيقال له : هل رأيت الله فيقول : ما ينبغي لأحد أن يرى الله ، فيفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضاً فيقال له : أنظر إلى ما وقاك الله ، ثم يفرج له قبل الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها فيقال له : هذا مقعدك ، ويقال له : على اليقين كنت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله .
وكان الجمهور يرون رأي عائشة ويكذبون أحاديث الرؤية بالعين
ـ قال الثعالبي في الجواهر الحسان ج ٣ ص ٢٥٣
ولقد رآه . . . فقالت عائشة والجمهور هو عائد على جبرئيل .
ـ وقال الشاطبي في الإعتصام ج ٢ ص ١٧٦
الأولون ردوا كثيراً من الأحاديث الصحيحه بعقولهم وأساؤوا الظن ( . . . ) بما صح عن النبي ( ص ) حتى ردوا كثيراً من الأمور الأخرى . . . وأنكروا رؤية الباري .
ـ وقال في الإعتصام ج ٢ ص ١٩٧
بعض علماء الكلام . . عدوا من البدعة قول من يصف الباري تعالى بالعلو وبأنه على عرشه . . . وهذا هو عين السنة المأثورة عن الصحابة .
ـ وقال في الإعتصام ج ٢ ص ٣٣٤
ـ وذهب جماعة من العلماء إلى أن المراد بالرأي المذموم في هذه الأخبار البدع المحدثة كرأي أبي جهم وغيره . . فقالوا لا يجوز أن يرى الله في الآخرة لأنه تعالى يقول : لا تدركه الأبصار . .
ـ وقال الذهبي في تاريخ الإسلام ج ٢٠ ص ١٥٣
محمد بن أحمد بن حفص
بن الزبرقان : أبو عبد الله البخاري عالم أهل بخارى وشيخهم وكان فقيها ورعاً زاهداً ، ويكفر من قال بخلق القرآن ويثبت
أحاديث الرؤية
والنزول
، ويحرم المسكر توفي سنة ٢٦٤ هـ في رمضان . انتهى . ومدحه للبخاري بأنه يثبت أحاديث الرؤية والنزول يدل على أنه يوجد كثيرون ينفونها . ـ وقال الطوسي في
تفسير التبيان ج ٤ ص ٢٢٦ روى مسروق عن عائشة
أنها قالت : من حدثك أن رسول الله رأى ربه فقد كذب : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من
وراء حجاب ولكن رأى جبرئيل في صورته مرتين . وفي رواية أخرى أن مسروقاً لما قال لها : هل رأى محمد ربه قالت : سبحان الله لقد قف شعري مما قلت ! ثم قرأت الآية . وقال الشعبي : قالت عائشة : من قال إن أحداً رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله ، وقرأت الآية ، وهو قول السدي وجماعة أهل العدل من المفسرين كالحسن والبلخي والجبائي والرماني وغيرهم . وقال أهل الحشو والمجبرة بجواز الرؤية على الله تعالى في الآخرة ، وتأولوا الآية على الإحاطة ، وقد بينا فساد ذلك . علي عليهالسلام يوضح ما لم توضحه عائشة ـ نهج البلاغة ج ١ ص
١٤ الحمد لله الذي لا
يبلغ مدحته القائلون ، ولا يحصي نعمه العادون ، ولا يؤدي حقه المجتهدون . الذي لا يدركه بعد
الهمم ، ولا يناله غوص الفطن ، الذي ليس لصفته حد محدود ، ولا نعت موجود ، ولا وقت معدود ، ولا أجل ممدود . فطر الخلائق بقدرته ،
ونشر الرياح برحمته ، ووتد بالصخور ميدان أرضه . أول الدين معرفته ، وكمال
معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف ، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة ، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثناه ، ومن ثناه فقد جزأه ، ومن جزأه فقد جهله ،
ومن جهله فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حده ، ومن حده فقد عده ، ومن قال فيم فقد ضمنه ، ومن قال علام فقد أخلى منه .
كائن لا عن حدث ، موجود لا عن عدم ، مع كل شئ لا بمقارنة ، وغير كل شئ لا بمزايلة ، فاعل لا بمعنى الحركات والآلة ، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه ، متوحد إذ لا سكن يستأنس به ولا يستوحش لفقده . انتهى .
وسيأتي في الفصل الرابع المزيد من جواهر النبي وآله في التوحيد ونفيهم المطلق للرؤية والتشبيه والتجسيم عن الله تبارك وتعالى .
وأصل روايات الرؤية بالعين لا تتجاوز العشرة
ـ قال الذهبي في سيره ج ١٠ ص ٤٥٥
قال أحمد بن حنبل : أخبرني رجل من أصحاب الحديث أن يحيى بن صالح قال : لو ترك أصحاب الحديث عشرة أحاديث يعني هذه التي في الرؤية ، ثم قال أحمد : كأنه نزع إلى رأي جهم . . . قلت : والمعتزلة تقول لو أن المحدثين تركوا ألف حديث في الصفات والأسماء والرؤية والنزول لأصابوا . والقدرية تقول أنهم تركوا سبعين حديثاً في إثبات القدر . والرافضة تقول لو أن الجمهور تركوا من الأحاديث التي يدعون صحتها ألف حديث لأصابوا ، وكثير من ذوي الرأي يردون أحاديث شافه بها الحافظ المفتي المجتهد أبو هريرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويزعمون أنه ما كان فقيهاً ويأتوننا بأحاديث ساقطة أو لا يعرف لها إسناد أصلاً محتجين بها .
قلنا : وللكل موقف بين يدي الله تعالى ، يا سبحان الله أحاديث رؤية الله في الآخرة متواترة والقرآن مصدق لها ، فأين الإنصاف . انتهى .
نقول : الإنصاف أن في
القرآن آيات تنفي الرؤية بالعين بشكل قاطع فهي محكمة ، وفيه آيات يفهم من ظاهرها الرؤية بالعين فيجب تأويلها لأنها متشابه يحمل على المحكم ، أما أحاديث الرؤية بالعين فهي مهما كثرت مخالفة للقرآن ، مضافاً إلى أن
بعضها
كذبه الصحابة ، وجميعها كذبها أهل بيت النبي الذين أمر النبي أمته أن تأخذ معالم دينها منهم صلوات الله عليه وعليهم ، وكذبتها عائشة وغيرها من الصحابة . فهذا هو الإنصاف ! جعلنا الله جميعاً من المنصفين في الأمور العلمية والعملية . ـ الأحاديث القدسية
من الصحاح ج ١ ص ١٤٧ اختلف العلماء في
الحديث أعلاه لأنه حديث من أحاديث الصفات ، قال الإمام أبو بكر بن فورك : إنها غير ثابته عند أهل النقل ولكن قد رواها مسلم وغيره فهي صحيحة . . وقول أهل السلف إنه حق ولا يتكلم في تأويلها . انتهى . ولا بد أن المقصود
بقوله أهل النقل الذين لم تثبت عندهم : علماء الجرح والتعديل وأئمة الحديث النقاد ، بينما هي ثابتة عند المتساهلين ، وعند الذين يميلون إلى ما تريده الدولة . كما أن شهادة ابن فورك بأن مسلماً روى في صحيحه ما لم يثبت عند أهل النقل يجب أن تفتح الباب لإعادة تقييم روايات مسلم . وغلبت موجة كعب ودخلت
الرؤية والتشبيه في عقائد المسلمين كانت موجة التشبيه
التي ساندتها الدولة أقوى من مواجهة الراوين فقد استطاع الخليفة عمر ومن سار على خطه أن يحدثوا موجة من القول بالرؤية كما ستعرف ، وقد غلبت هذه الموجة رأي عائشة وكل الصحابة ورجحت عليهم ، وصارت الرؤية بالعين جزءً من عقيدة جمهور المسلمين إلى يومنا هذا ، وتبرع علماء إخواننا السنة بتأويل كلام عائشة رغم صراحته ، بل تجرؤوا على رد كلامها رغم ثقتهم بها ومكانتها في عقائدهم ، وقالوا إنها قالت ذلك باجتهادها ! ! مع أن الطبري وغيره رووا أنها لم
تنف الرؤية من اجتهادها بل روت ذلك عن النبي صلىاللهعليهوآله . ـ قال الدميري في
حياة الحيوان ج ٢ ص ٧٢ واختلف العلماء من
السلف والخلف في أنه هل رأى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ربه تعالى أم لا ، فأنكرته عائشة وأبو هريرة وابن مسعود وجماعة من السلف ،
وبه قال جماعة من المتكلمين والمحدثين ، وأجازه جماعة من السلف وأنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة الأسراء بعيني رأسه ، وهو قول ابن عباس وأبي ذر وكعب الأحبار والحسن البصري والشافعي وأحمد بن حنبل ، وحكي أيضاً عن ابن مسعود وأبي هريرة ، والمشهور عنهما الأول ، وبهذا القول الثاني قال أبو الحسن وجماعة من أصحابه ، وهو الأصح ، وهو مذهب المحققين من السادة الصوفية . . . قلت : رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة جائزة بالأدلة العقلية والنقلية . . . وأما استدلال عائشة رضي الله عنها على عدم الرؤية بقوله تعالى : لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ، ففيه بُعْدٌ ، إذ يقال بين الإدراك والإبصار فرق ، فيكون معنى لا تدركه الأبصار أي لا تحيط به مع أنها تبصره ، قاله سعيد بن المسيب وغيره . وقد نفى الإدراك مع وجود الرؤية في قوله تعالى : فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا ، أي لا يدركونكم . وأيضاً فإن الأبصار عموم وهو قابل للتخصيص فيختص المنع بالكافرين كما قال تعالى عنهم : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ، ويكرم المؤمنين أو من شاء الله منهم بالرؤية كما قال تعالى : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ . وبالجملة فالآية ليست نصاً ولا من الظواهر الجلية في عدم جواز الرؤية ، فلا حجة فيها والله أعلم . انتهى .
وقد لاحظت كيف صاغ صاحب حياة الحيوان الموضوع ، وجعله مسألة ذات وجهين وكثَّر القائلين بالرؤية من السلف والخلف ، ثم خلط الإدراك بمعنى اللحوق بالإدراك بمعنى الرؤية ، وجعل إمكان تخصيص الله تعالى لعموم آية تخصيصاً بالفعل ، ثم كابر في إنكار الظاهر . . ثم جعل رواية عائشة استدلالاً من زميلة له . . كل ذلك لأنه يريد مذهب كعب الأحبار في الرؤية بالعين بأي ثمن ! !
ـ وقال في عارضة الأحوذي ج ٦ جزء ١١ هامش ص ١٨٨
عن ابن عربي إن الله أنزل هذه الآية لا لنفي الرؤية لله ولا قالت به عائشة ، فإنه يرى في الدنيا والآخرة جوازاً ووقوعاً ! !